المجتبى من سيرة الإمام المجتبى عليه السلام
آية الله العظمى المرجع الديني الكبير
الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله
مقدمة المركز
ولادته
كنيته وألقابه عليه السلام
مناقبه عليه السلام
كراماته عليه السلام
صلحه عليه السلام مع معاوية بن أبي سفيان
عقد الصلح
شهادته عليه السلام
مقدمة المركز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين، آمين ربّ العالمين.
أهل البيت عليهم السلام شخوص نورانية وأشخاص ملكوتية، منها ولأجلها وُجِدَ الكون، وإليها حساب الخَلق، يتدفَّقون نوراً وينطقون حياةً، شفاههم رحمة وقلوبهم رأفة، وُضِع الخير بميزانهم فزانوه عدلاً، ونَمَت المعرفة على ربوع ألسنتهم فغذّوها حكمةً.
أنوارٌ هداة، قادةٌ سادات، (ينحدرُ عنهم السيل، ولا يرقى إليهم الطير)، ألفوا الخَلق فألفوهم، تصطفُّ على أبوابهم أبناء آدم متعلِّمين مستنجدين سائلين، وبمغانمهم عائدين.
لا يُكرِهون أحداً على موالاتهم ولا يُجبِرون فرداً على اتِّباعهم، يُقيّد حبّهم كلّ من استمع إليهم، ويشغف قلب كلّ من رآهم، منهجهم الحقّ وطريقهم الصدق وكلمتهم العليا، هم فوق ما نقول ودون ما يقال من التأليه، هم أنوار السماء وأوتاد الأرض.
والإمام الحسن المجتبى عليه السلام هو أحد هذه الأسرار التي حار الكثير في معناها، وغفل البعض عن وجه الحكمة في قراراتها، وباع آخرون دينهم بدنيا غيرهم، فراحوا يُسطرون الكذب والافتراءات عليه، والتي جاوز بعضها حدّ العقل، ولم يتجاوز حدّ الحقد المنصبّ على بيت الرسالة.
وقد اهتمَّ مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصّصية بكتابة البحوث والدراسات وتحقيق المخطوطات التي تعنى بشأن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ونشرها في كتب وكتيّبات بالإضافة إلى نشرها على مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي التابعة للمركز.
بالإضافة إلى النشاطات الثقافية والإعلامية الأُخرى التي يقوم بها المركز من خلال نشر التصاميم الفنّية، وإقامة مجالس العزاء، وعقد المحاضرات والندوات والمسابقات العلمية والثقافية التي تثرى بفكر أهل البيت عليهم السلام وغيرها من توفيقات الله تعالى لنا لخدمة الإمام المظلوم أبي محمّد الحسن المجتبى عليه السلام.
وهذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ هو أحد تلك الثمار التي أينعت، والتي لا تهدف إلَّا إلى بيان شخصية الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بكلِّ أبعادها المضيئة ونواحيها المشرقة، ولرفد المكتبة الإسلاميَّة ببحوث ودراسات عن شخصية الإمام الحسن المجتبى عليه السلام.
ومن الله التوفيق والسداد.
العتبة الحسينية المقدَّسة
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصّصية
كاظم الخرسان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين لا سيما بقية الله في الأرضينالإمام الثاني الحسن بن علي عليه السلام
ولادته
ولد عليه السلام في شهر رمضان, والأشهر أن ولادته يوم الثلاثاء, منتصف شهر رمضان, في سنة اثنتين من الهجرة, وقبض في شهر صفر من سنة تسع وأربعين, فعمره سبع وأربعون سنة وأشهر.
كنيته وألقابه عليه السلام
سماه الله الحسن, وكنيته أبو محمد وألقابه السيد, والسبط الأول, والأمين, والحجة, والبر, والتقي, والأثير, والزكي, والمجتبى, والزاهد.
مناقبه عليه السلام
وهي أكثر من أن تستوفى في هذا المختصر, وقد كان أشبه الناس برسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم خلقا وهديا وسؤددا.
أتت فاطمة عليها السلام بابنيها الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه التي توفي فيها, فقالت: يا رسول الله, هذان ابناك, فورثهما شيئا, فقال: أما الحسن فإن له هديي وسؤددي, وأما الحسين فإن له جودي وشجاعتي.(1) ويكفي في جلالة مقامه ما ورد من طرق العامة بأسانيد متعددة, عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم إني أحبه, فأحببه وأحب من يحبه.(2)
وكفاه منزلة أنه حبيب الله, وحبيب رسول الله, وأن محبه حبيب الله, فحبه براءة من النار, وجواز دخول الجنة, وإذا كان محبه محبوبا لله تعالى فهو في مقام ومنزلة عند الله دونه كل مقام ومنزلة, لأنه عليه السلام بإفنائه حبه في ذات الله وإفنائه رضاه في رضوان الله, صار حبه إكسيرا يقلب الحديد إلى الكبريت الأحمر, فيصير محبه محبوبا لله تعالى.
ولقد خاب من يدعي حبه ومع ذلك يحب عدوه, فكيف يجتمع الضدان؟!
وكفاه منقبة أنه ريحانة رسول الله في عالم الملك, يستشم منه رائحة الملكوت, وأنه هو الذي سماه سيد العالم سيدا, وهذا بيان لإمامته, لأن السيادة عنوان إضافي, فهو سيد من سواه من الأمة, فإن الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا.(3)
كان عليه السلام إذا توضأ ارتعدت مفاصله واصفر لونه, فقيل له في ذلك, فقال: حق على كل من وقف بين يدي رب العرش أن يصفر لونه, وترتعد مفاصله.(4)
وعن محمد بن علي عليهما السلام قال: قال الحسن عليه السلام: إني لأستحيي من ربي أن ألقاه, ولم أمش إلى بيته, فمشى عشرين مرة من المدينة على رجليه.(5)
وعن علي بن زيد بن جذعان, قال: (خرج الحسن بن علي من ماله مرتين, وقاسم الله ثلاث مرات).(6)
وعن الصادق عليه السلام قال: حدثني أبي عن أبيه عليه السلام أن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام كان أعبد الناس في زمانه, وأزهدهم وافضلهم, وكان إذا حج حج ماشيا, وربما مشى حافيا, وكان إذا ذكر الموت بكى, وإذا ذكر القبر بكى, وإذا ذكر البعث والنشور بكى, وإذا ذكر الممر على الصراط بكى, وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها, وإذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل, وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم, وسأل الله تعالى الجنة, وتعوذ به من النار, وكان عليه السلام لا يقرأ من كتاب الله عز وجل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الا قال: لبيك اللهم لبيك, ولم ير في شيءٍ من أحواله إلا ذاكرا لله سبحانه, وكان أصدق الناس لهجة وأفصحهم منطقا.(7)
هذه معاملته مع الله, وأما معاملته مع خلقه فقد كان مارا في بعض حيطان المدينة, فرأى أسود بيده رغيف يأكل ويطعم الكلب لقمة, إلى أن شاطره الرغيف, فقال له الحسن عليه السلام: ما حملك على أن شاطرته ولم تغابنه فيه بشيء, فقال: استحت عيناي من عينيه أن أغابنه, فقال له: غلام من أنت؟ فقال: غلام أبان بن عثمان, فقال: والحائط؟ قال: لأبان بن عثمان, فقال له الحسن عليه السلام: أقسمت عليك, لا برحت حتى أعود عليك, فمر واشترى الغلام والحائط, وجاء إلى الغلام, فقال: يا غلام قد اشتريتك, قال: فقام قائما, فقال: السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي, قال: وقد اشتريت الحائط, وأنت حر لوجه الله, والحائط هبة مني إليك, فقال الغلام: يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له.(8)
هذه معاملته مع الضعيف مع قبض يده, فكيف كان الأمر لو كانت يداه مبسوطتين.
وأما معاملته لعدوه, فقد قال لأخيه الحسين عليه السلام عند وفاته: وإني لعارف من أين دهيت, فأنا أخاصمه إلى الله تعالى, فبحقي عليك لا تكلمت في ذلك بشيء.(9)
فهو الذي تخلق بأخلاق الله, وتجلت فيه أسماء الله, بغفرانه الذنوب, وستره العيوب, وظهور الرحمة العامة والخاصة من حضرته.
وقد أمره أمير المؤمنين عليه السلام يوما أن يخطب, قام فقال: (الحمد لله الواحد بغير تشبيه, الدائم بغير تكوين, القائم بغير كلفة, الخالق بغير منصبة, الموصوف بغير غاية, المعروف بغير محدودية, العزيز لم يزل قديما في القدم, ردعت القلوب لهيبته, وذهلت العقول لعزته, وخضعت الرقاب لقدرته, فليس يخطر على قلب بشر مبلغ جبروته, ولا يبلغ الناس كنه جلاله, ولا يفصح الواصفون منهم لكنه عظمته, ولا تبلغه العلماء بألبابها, ولا أهل التفكر بتدبير أمورها, أعلم خلقه به الذي بالحد لا يصفه, يدرك الأبصار, ولا تدركه الأبصار, وهو اللطيف الخبير, أما بعد, فإن عليا باب من دخله كان مؤمنا, ومن خرج منه كان كافرا, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم).
فقام علي بن أبي طالب عليه السلام وقبل بين عينيه, ثم قال: (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).(10) (11)
فقد جمع عليه السلام في هذه الخطبة القصيرة جميع ما يتعلق بالمعارف الإلهية, مما يتعلق بذاته تعالى وصفاته وأفعاله.
وقد اشتمل قوله عليه السلام: (الحمد لله الواحد بغير تشبيه) في بدء خطبته على الإثبات والنفي, أي حقيقة التوحيد, وإخراج العقول عن حد التعطيل والتشبيه.
وفي قوله عليه السلام في ختامها: (اعلم خلقه به الذي بالحد لا يصفه) ابطال التفكر في ذاته وصفاته, وأن كل وصف إلا ما وصف الله به نفسه ينتهي إلى التحديد, وهو التثنية التي تبطل بواحديته بغير تشبيه, (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)(12) ففي كل جملة منها مجمل من مفصل, لا يصل إليه إلا الراسخون في الحكمة الإلهية.
وقد سأل أعرابي أبا بكر, فقال: إني أصبت بيض نعام فشويته وأكلته وأنا محرم, فما يجب علي؟
فقال له: يا أعرابي أشكلت علي في قضيتك, فدله على عمر, فدله عمر على عبد الرحمن, فلما عجزوا قالوا: عليك بالأصلع, فقال أمير المؤمنين: سل أي الغلامين شئت, فقال الحسن: يا أعرابي ألك إبل؟
قال: نعم, قال: فاعمد إلى عدد ما أكلت من البيض نوقا فاضربهن بالفحول, فما فضل منها فاهده إلى بيت الله العتيق الذي حججت إليه, فقال أمير المؤمنين: إن من النوق السلوب ومنها ما يزلق, فقال: إن يكن من النوق السلوب وما يزلق, فإن من البيض ما يمرق, قال: فسمع صوت: معاشر الناس, إن الذي فهم هذا الغلام هو الذي فهمها سليمان بن داود.(13)
وفي الموثق عن محمد بن مسلم, قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله يقولان: بينا الحسن بن علي عليه السلام في مجلس أمير المؤمنين صلوات الله عليه إذ أقبل قوم, فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين, قال: وما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن مسألة, قال: وما هي تخبرونا بها, فقالوا: امرأة جامعها زوجها, فلما قام عنها, قامت بحموتها, فوقعت على جارية بكر فساحقتها, فألقت النطفة فيها, فحملت, فما تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة وأبو الحسن لها, وأقول: فإن أصبت فمن الله, ثم من أمير المؤمنين, وإن أخطأت فمن نفسي, فأرجو أن لا أخطيء إن شاء الله: يعمد إلى المرأة, فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أول وهلة, لأن الولد لا يخرج منها حتى يشق فتذهب عذرتها, ثم ترجم المرأة لأنها محصنة, ثم ينتظر بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد إلى أبيه صاحب النطفة, ثم تجلد الجارية الحد, قال: فانصرف القوم من عند الحسن فلقوا أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ما قلتم لأبي محمد, وما قال لكم, فأخبروه, قال: لو أنني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر مما قال ابني.(14)
ولما أحاط أصحاب الجمل حول علم الطغيان على خليفة الرحمن, وعجز عن مقابلتهم الفرسان, دعا أمير المؤمنين عليه السلام محمد ابن الحنفية فأعطاه رمحه وقال له: اقصد بهذا الرمح قصد الجمل, فذهب فمنعوه بنو ضبة فلما رجع إلى والده انتزع الحسن رمحه من يده, وقصد قصد الجمل, وطعنه برمحه ورجع إلى والده, وعلى الرمح أثر الدم, فتمغر وجه محمد من ذلك, فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تأنف فإنه ابن النبي وأنت ابن علي.(15)
وقد شيب هذه الشجاعة في نفسه القدسية بالحلم, ذلك الحلم الذي روى فيه المبرد وابن عائشة أن شاميا رآه راكبا فجعل يلعنه والحسن لا يرد, فلما فرغ أقبل الحسن عليه السلام فسلم عليه وضحك, فقال: أيها الشيخ أظنك غريبا ولعلك شبهت, فلو استعتبتنا أعتبناك, ولو سألتنا أعطيناك, ولو استرشدتنا أرشدناك, ولو استحملتنا أحملناك, وإن كنت جائعاً أشبعناك, وإن كنت عريانا كسوناك, وإن كنت محتاجا أغنيناك, وإن كنت طريدا آويناك, وإن كان لك حاجة قضيناها لك, فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك, لأن لنا موضعا وجاها عريضا ومالاً كثيراً, فلما سمع الرجل كلامه بكى, ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه, الله أعلم حيث يجعل رسالته, وكنت وأبوك أبغض خلق الله إلي, والآن أنت أحب خلق الله إلي, وحول رحله إليه, وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقدا لمحبتهم.(16)
ولما مات عليه السلام أخرجوا جنازته, فحمل مروان بن الحكم سريره, فقال له الحسين عليه السلام: تحمل اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعه الغيظ, قال مروان: نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال.(17)
ولقد ساد الخلائق في الفضائل, من العلم والحلم والمعرفة والعبادة والفصاحة والسماحة والجود والشجاعة والعفو والرحمة, فهو السيد على الإطلاق كما سماه جده,(18) وأمضاه الله سبحانه وتعالى وقال: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ).(19)
ولابد من التأمل في سبب انتهاء أمر الأمة إلى نقض بيعة هذا السيد ابن السيد, والدخول إلى بيعة ذلك الطليق ابن الطليق, وهل كان مبدأ هذا المنتهى الا تمهيد الحكومة في الشورى لبني أمية وأبناء الطلقاء.
كراماته عليه السلام
ومن كراماته عليه السلام ما عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خرج الحسن بن علي في بعض عمره, ومعه رجل من ولد الزبير, كان يقول بإمامته, فنزلوا من تلك المناهل تحت نخل يابس قد يبس من العطش, ففرش للحسن عليه السلام تحت نخلة, وللزبيري تحت أخرى, فقال الزبيري: لو كان في هذا النخل رطب لأكلنا منه, فقال له الحسن عليه السلام: وإنك لتشتهي الرطب, فقال الزبيري: نعم, فرفع يده إلى السماء فدعا بكلام لم أفهمه, فاخضرت النخلة, ثم صارت إلى حالها, وأورقت, وحملت رطبا, فقال الجمال الذي اكتروا منه: سحر والله, فقال له الحسن عليه السلام: ويلك ليس بسحر, ولكن دعوة ابن نبي مستجابة, فصعدوا, وصرموا ما كان في النخلة وكفاهم.(20)
والعجب من قوم اعترفوا بأن الحسن والحسين ممن نزلت فيهم آية التطهير, وانهما اللذان أراد الله من كلمة الجمع في أبنائنا, واختارهما للمباهلة التي هي من أعظم الآيات لإبطال النصرانية, وإحقاق الإسلام, ومن أظهر البينات لإثبات من يكون وجيها عند الله بإجابة الدعاء, وأنهما من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين يصلى عليهم في كل الصلوات, وأنهما سيدا شباب أهل الجنة, وأنهما بضعة من رسول الله,(21) وأنهما ريحانتا رسول الله,(22) وأنهما أحب أهل بيت رسول الله اليه,(23) وأن الله زين الجنة بهما,(24) وأنهما خير الناس جدا وجدة وأباً وأُما,(25) وأنهما سبطا هذه الأمة, وأن النبي ورثهما سيادته وجوده وشجاعته, وغير ذلك مما جاء في مناقبهما من الفضائل الخلقية والخلقية والعلمية والعملية, مما ملأت كتب التفسير والحديث والرجال والتاريخ, ومع ذلك جوزوا استبدال الحسن بمعاوية, والحسين بيزيد بملاك بيعة الأكثرية الذين لا يعقلون.
وأخذوا ما استندوا إليه عن معاوية, حيث قال للحسن بن علي عليه السلام: أنا خير منك يا حسن, قال: وكيف ذلك يا بن هند, قال: لأن الناس قد أجمعوا علي ولم يجمعوا عليك, قال: هيهات, هيهات, لشر ما علوت يا بن آكلة الأكباد, المجتمعون عليك رجلان, بين مطيع ومكره, فالطائع لك عاص لله, والمكره معذور بكتاب الله, وحاش لله أن أقول: أنا خير منك, فلا خير فيك, ولكن الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل.(26)
نقل ابن أبي الحديد عن أبي الفرج: خطب معاوية بالكوفة حين دخلها, والحسن والحسين جالسان تحت المنبر, فذكر عليا, فنال منه, ثم نال من الحسن, فقام الحسين ليرد عليه, فأخذه الحسن بيده فأجلسه, ثم قام فقال: أيها الذاكر عليا, أنا الحسن وأبي علي, وأنت معاوية وأبوك صخر, وأمي فاطمة وأمك هند, وجدي رسول الله, وجدك عتبة بن ربيعة, وجدتي خديجة وجدتك قتيلة, فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا حسبا, وشرنا قديما وحديثا, وأقدمنا كفرا ونفاقا, فقال طوائف من أهل المسجد: آمين, قال الفضل: قال يحيى بن معين وأنا أقول آمين, قال أبو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل وأنا أقول آمين, ويقول علي بن الحسين الاصفهاني آمين, قلت: ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب آمين.(27)
صلحه عليه السلام مع معاوية بن أبي سفيان
لابد من التعرف على طرفي هذا العقد, ونفس العقد, ولا مجال إلا للإشارة إلى الثلاثة.
أما معاوية فالكتب مملوءة من ارتكابه الكبائر الموبقة, منها البغي, قال الله سبحانه: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الأْخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).(28)
مع أن عليا عليه السلام كان خليفة بإجماع الأمة, وكان ما استدل به على استحقاق الخلافة والإمامة -من الكتاب والسنة والإجماع- منطبقا عليه, خرج معاوية عليه وفارق الجماعة, فانطباق الباغي عليه, والبغي على عمله لا يحتاج إلى بيان.
وقد نص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على بغيه, ونقتصر على ما رووا عن عمارة بن خزيمة بن ثابت, قال: شهد خزيمة بن ثابت الجمل, وهو لا يسل سيفا, وشهد صفين, قال: أنا لا أضل أبدا بقتل عمار, فانظر من يقتله, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: تقتلك الفئة الباغية.
قال: فلما قتل عمار, قال خزيمة: قد حانت له الضلالة, ثم أقرب, وكان الذي قتل عمارا أبو غادية المزني طعنه بالرمح, فسقط, فقاتل حتى قتل, وكان يومئذ يقاتل وهو ابن أربع وتسعين, فلما وقع كب عليه رجل آخر, فاجتز رأسه, فأقبلا يختصمان كل منهما يقول: أنا قتلته, فقال عمرو بن العاص: والله إن يختصمان إلا في النار, فقال عمرو: هو والله ذاك والله إنك لتعلمه, ولوددت إني مت قبل هذا بعشرين سنة.(29)
فما يقال في الرجل الذي شق عصا المسلمين, وفارق الجماعة وخالف الكتاب والسنة والعقل وإجماع الأمة؟!
وهو مهدور الدم بحكم الله في القرآن (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ), وأسس الفئة الباغية التي إحدى سيئاتها قتل عمار الذي رووا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حقه: مرحبا بالطيب المطيب(30), وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بعمار وأهله, وهم يعذبون, فقال: أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة(31), وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم: من يسب عمارا يسبه الله, ومن يعاد عمارا يعاده الله(32).
ومن كبائر معاوية التي ثقلت في السماوات والأرض سب أمير المؤمنين عليه السلام.
وقد رووا في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سب عليا فقد سبني(33), وفي آخر: من سب علياً فقد سبني, ومن سبني فقد سب الله تعالى(34).
ومن كان له أدنى معرفة بمبادئ الفقاهة يعلم أن مقتضى التنزيل في الموضوع التوسع في دائرة الأحكام المترتبة على المنزل عليه بالنسبة إلى المنزل, إلا أن تقوم حجة على تقييد إطلاق التنزيل, ولم يقم في المقام من كتاب ولا سنة ولا إجماع مقيد لهذا التنزيل, ومن أحكام سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسب الله تعالى هو الارتداد والكفر(35).
ولا تعارض بين هذه الرواية وما عن أبي برزة, قال: أغلظ رجل لأبي بكر...., فقلت: يا خليفة رسول الله ألا أقتله, فقال: ليس هذا إلا لمن شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (36), لاستحالة التعارض بين الحاكم والمحكوم, فإن هذه الرواية تثبت القتل لشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلك الرواية تثبت أن شتم علي عليه السلام هو شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم هذه الرواية حجة قاطعة على عدم جواز قتل أحد لسب أبي بكر وعمر وعثمان وبطلان قول من حكم بجواز قتل ساب الثلاثة, ولو تنزلنا عما ذكرنا فلا ريب في أن سب علي عليه السلام بمقتضى الكتاب والسنة من أعظم الكبائر, فكيف لا يسقطون إمارته عن الاعتبار, ويمنعون عن ذكره بسوء, مع أنه من أكبر الفساق والفجار.
ويكفي في شأنه ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام المضمون عصمته من الله بآية التطهير, ومن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: علي مع الحق والحق مع علي(37), ونقتصر من جميع ما قاله عليه السلام بما كتبه إلى أهل العراق: (فأيقظوا رحمكم الله نائمكم, واجمعوا على حقكم, وتجردوا لحرب عدوكم, قد بدت الرغوة عن الصريح, وبان الصبح لذي عينين, إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء, وأولي الجفاء, ومن أسلم كرهاً وكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنف الإسلام كله حرباً, أعداء الله والسنة والقرآن, وأهل الأحزاب والبدع والأحداث, ومن كانت بوائقه تتقى, وكان على الإسلام مخوفاً, أكلة الرشا وعبدة الدنيا).(38)
هذا معاوية بن أبي سفيان من وراء الظلمات التي بعضها فوق بعض.
وأما الحسن بن علي عليه السلام فهو الذي حبه حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبغضه بغضه وحب الرسول وبغضه حب الله وبغضه, وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الحسن والحسين على عاتقيه وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا فقال له رجل: يا رسول الله إنك تحبهما؟
فقال: نعم, من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني(39), وهو الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا, والتدبر في إطلاق الرجس الذي أذهبه الله عنه, والطهارة التي طهره بها يغني عن كل منقبة.
وقد اختاره الله للمباهلة التي هي منزلة من تستجاب له دعوته, ولا ترد طلبته, وهو رابع أهل الكساء, وثالث من نزلت في شأنه سورة هل أتى, وممن جعل الله مودته أجر الرسالة العظمى(40), وهو ممن يصلي عليه كل مصل في كل صلاة في كل غداة وعشاء, وهو ممن قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حقهم: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم(41), وهو وأخوه سبطا هذه الأمة(42), وسيدا شباب أهل الجنة(43), وكيف تحصى فضائله وقد شهد سيد ولد آدم بسيادته بقوله: إن ابني هذا سيد(44).
هذه أشعة من أنوار المصباح الذي حياته نور على نور.
عقد الصلح
وأما عقد الصلح فلابد من النظر إلى ما وقع عليه العقد وسببه, وما ترتب عليه, ونقتصر على إشارة إجمالية إلى الجهات الثلاث: الجهة الأولى: فمما وقع عليه العقد: أن الإمام عليه السلام لا يسمي معاوية بأمير المؤمنين, ولا يقيم عنده شهادة, وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي عليه السلام شيئاً, وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم, وأن يجعل ذلك خراج دار أبجرد(45).
وبالجملة الأولى أبطل إمارته للمؤمنين, فإنه الذي لا إمارة له من الله ولا من رسوله ولا من المؤمنين, حتى على القول بانعقاد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد فإنه لابد من الأهلية المستتبعة لشروط, منها العدالة بالضرورة, فلا يمكن عقلا ولا شرعا إمامة الفاسق على المؤمنين, (أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ), (46) واي فسق أعظم من سب من سبه سب الله, والبغي على خليفة رسول الله, وإراقة دماء من تولى ولي الله, والمخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبالجملة الثانية أثبت عدم لياقته للحكم في حق الله وحق الناس, مع أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ)(47).
وبالجملة الثالثة أتم الحجة على كل مسلم, بأن شرط على معاوية أن لا يتعقب على شيعة علي شيئا, وقد ظهر منه نقض العهد على رؤوس الأشهاد بسفك الدماء المعصومة من العباد والزهاد من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام إلى أن جنى جناية ليست فوقها جناية حيث صار سببا لقتل ريحانة الرسول وسيد شباب أهل الجنة, وقد روى أعيان أهل الحديث من العامة بأن ابنة الأشعث بن قيس سمت الحسن بن علي ورشيت على ذلك (48), وتظافرت أقوال أعيان التاريخ والحديث على أن الراشي كان معاوية.
منهم الزمخشري, قال: جعل معاوية لجعدة بنت الأشعث امرأة الحسن مائة الف درهم حتى سمته,(49) ومع ذلك كله يمسكون عن إحقاق الحق وإبطال الباطل, والدفاع عن الظلم الذي جرى على رسول الله في ابنه الذي رووا في الصحيح أنه أو أخاه ركب ظهره في حال السجود فلم يرفع رأسه, ولما سألوه وقالوا: يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها, أفشيء أمرت به أو كان يوحى إليك؟
قال: كل ذلك لم يكن, ولكن ابني ارتحلني, فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته.(50)
ورووا في الصحيح عندهم عن أبي هريرة كنا نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وإذا رفع أخذهما فوضعهما وضعاً رفيقاً فاذا عاد عادا فلما صلى جعل واحداً هاهنا وواحداً هاهنا, فقلت يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما؟ قال: لا, فبرقت برقة فقال ألحقا بأمكما فما زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلا.(51)
وأما الجهة الثانية: وهي سبب الصلح, والجهة الثالثة وهي ما ترتب عليه تظهران مما يلي:
فإن السنة الإلهية في الإمامة المجعولة لأئمة الهدى هي الصبر على ما ابتلوا به, قال سبحانه: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا),(52) وإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).(53)
وإمامة أئمة هذه الأمة بمقتضى الخلافة لمقام الرسالة الخاتمية أرفع درجات الإمامة, فلا محالة تقتضي الإشتراط بأعلى مراتب الصبر على البلاء والزهد في زخارف الدنيا (اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك, إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية).(54)
ويظهر هذا لمن تأمل في حياة الأئمة المعصومين عليهم السلام وابتلائهم بطواغيت الزمان, والمصائب التي جرت عليهم وعلى أولادهم ومن اختص بهم.
وقد ابتلي السبط الأكبر بمصيبة تظهر عظمتها من مقايسة أصحابه باصحاب أخيه الحسين عليه السلام, لما قام الحسين خطيباً في أصحابه, وقال: فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما, قال زهير بن القين: ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.
وقال هلال بن نافع البجلي: والله ما كرهنا لقاء ربنا, وإنا على نياتنا وبصائرنا, نوالي من والاك ونعادي من عاداك.
وقال برير بن خضير: والله يا ابن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك فتقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.(55)
وفي الصحيح عن علي بن الحسين عليه السلام: كنت مع أبي في الليلة التي قتل في صبيحتها, فقال لأصحابه: هذا الليل فاتخذوه جنة, فإن القوم إنما يريدونني, ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم, وأنتم في حل وسعة, فقالوا: والله لا يكون هذا أبدا, فقال: إنكم تقتلون غدا كلكم, ولا يفلت منكم رجل, قالوا: الحمد لله الذي شرفنا بالقتل معك.(56)
وأما الحسن عليه السلام فخطب بعد وفاة أبيه, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة, ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر, فشيب السلامة بالعداوة والصبر بالجزع, وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم, وقد أصبحتهم الآن ودنياكم أمام دينكم, وكنا لكم وكنتم لنا, وقد صرتم اليوم علينا.
ثم أصبحتم تصدون قتيلين: قتيلاً بصفين تبكون عليهم, وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم, فأما الباكي فخاذل, وأما الطالب فثائر.
وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة, فإن أردتم الحياة قبلناه منه, وأغضضنا عن القذى, وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله وحاكمناه إلى الله.
فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة.(57)
ولما وجه إلى معاوية قائدا في أربعة آلاف, وكان من كندة, وأمره أن يعسكر بالأنبار, كتب إليه معاوية: إن أقبلت إلي وليتك بعض كور الشام, أو الجزيرة, غير منفس عليك, وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم, فقبض الكندي المال وقلب على الحسن عليه السلام, وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته.
فبلغ ذلك الحسن عليه السلام فقام خطيباً وقال: هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر بي وبكم, وقد أخبرتكم مرة بعد أخرى أنه لا وفاء لكم, أنتم عبيد الدنيا, وأنا موجه رجلاً آخر مكانه, وأنا أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبه, لا يراقب الله في ولا فيكم.
فبعث إليه رجلاً من مراد في أربعة آلاف, وتقدم إليه بمشهد من الناس, وتوكد عليه, وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي, فحلف له بالايمان التي لا تقوم لها الجبال أنه لا يفعل.
فقال الحسن عليه السلام: إنه سيغدر.
فلما توجه إلى الأنبار, أرسل معاوية إليه رسلا, وكتب إليه بمثل ما كتب إلى صاحبه وبعث إليه بخمسمائة ألف درهم, ومناه أي ولاية أحب من كور الشام, أو الجزيرة, فقلب على الحسن عليه السلام وأخذ طريقه إلى معاوية, ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود, وبلغ الحسن عليه السلام ما فعل المرادي....(58).
وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية, فإنا معك, وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك, ثم أغاروا على فسطاطه وضربوه بحربة, ثم كتب جواباً لمعاوية: إنما هذا الأمر لي, والخلافة لي ولأهل بيتي, وإنها محرمة عليك وعلى أهل بيتك, سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله لو وجدت صابرين عارفين بحقي غير منكرين ما سلمت لك ولا أعطيتك ما تريد.(59)
فكما أنه قال عليه السلام: فإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله, وحاكمناه إلى الله, لو كان له أصحاب مثل ما كان لأخيه لكان له يوم كيوم الحسين عليه السلام, ولكن الذين كانوا حوله كانت قلوبهم مع معاوية, ولو قام لم يتيسر لمراده من بذل نفسه في ذات الله, بل تحقق ما أراده معاوية وهو أن يمحو العفو والكرامة التي ظهرت من جده رحمة الله على العالمين, عليه وعلى أبيه من المشركين, حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تثريب عليكم اليوم, اذهبوا فأنتم الطلقاء(60), وأن يزيل عار الطليق ابن الطليق عن نفسه وعن أبيه بالسيطرة على الإمام فيمن على رسول الله وأوصيائه المعصومين بالعفو عنه عليه السلام, ويجعل عار الطليق على سيد الأحرار فيصير صاحب الفيء فيئاً, وكان هذا هوانا وذلا على الرسول وأوصيائه وعلى علي وأولاده عليهم السلام إلى يوم القيامة.
ومعاوية هو الذي كتب عنه أمير المؤمنين عليه السلام إلى زياد بن أبيه: إن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله, فاحذره, ثم احذره, ثم احذره, والسلام(61).
إلا أن الذي كان ينظر بنور الله, وينطق بحكمة الله, ويفعل بإرادة الله, بقعوده عن القتال أبطل الباطل, وأحق بالحق, وحفظ عزة الرسول, ومقام الرسالة, وحرمة الوصي, ومنصب الإمامة, ومنع عن إراقة دماء الأمة, وصان كيان الإسلام, لكيلا يترصد الكفار لاغتنام الفرصة من تشتت المسلمين.
عن سدير قال: قال أبو جعفر عليه السلام ومعي ابني: يا سدير اذكر لنا أمرك الذي أنت عليه, فإن كان فيه إغراق كففناك عنه, وإن كان مقصراً أرشدناك, قال: فذهبت أن أتكلم, فقال أبو جعفر عليه السلام: أمسك حتى أكفيك, إن العلم الذي وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند علي من عرفه كان مؤمناً ومن جحده كان كافراً, ثم كان من بعده الحسن عليه السلام, قلت: كيف يكون بتلك المنزلة وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟
فقال: اسكت, فإنه أعلم بما صنع, لولا ما صنع لكان أمر عظيم(62).
وما أضمره معاوية وإن كان بينا لمن كان من أهل المعرفة بالتاريخ, ومع ذلك قد بينه في رواية الجهني عنه عليه السلام: والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً, فوالله لئن أسالمه وأنا عزيز, خير من أن يقتلني وأنا أسيره, أو يمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر, ومعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت(63).
هذا بعض ما ظهر من حكمة قعوده عن قتال معاوية, وما خفي أكثر, وعن أبي سعيد قال: قلت للحسن بن علي بن أبي طالب: يا بن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته, وقد علمت أن الحق لك دونه, وأن معاوية ضال باغ؟ فقال: يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه, وإماماً عليهم بعد أبي؟ قلت: بلى. قال: ألست الذي قال رسول الله لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى, قال: فأنا إذن إمام لو قمت, وأنا إمام إذا قعدت, يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع, ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية, أولئك كفار بالتنزيل, ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل, يا أبا سعيد اذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيت من مهادنة أو محاربة, وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا, ألا ترى الخضر عليه السلام لما خرق السفينة, وقتل الغلام, وأقام الجدار, سخط موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه, حتى أخبره, فرضي, هكذا أنا, سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه, ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل(64).
وفي الرواية نكات لابد من التأمل فيها:
الأولى: إرشاده عليه السلام إلى حكم العقل والكتاب والسنة, فإن الإمام من الله على خلقه -لعلمه وعصمته- إمام على العقول والأفكار, ولا يمكن أن يجعل الحكيم اللطيف الخبير من يحتاج إلى الإرشاد مرشداً, ولا من لم يكن معصوماً عن الخطأ والاعوجاج هاديا إلى الصراط المستقيم, وعاصما للأمة على الدين القويم. فاتباع من جعله الله حجة وإماماً ضرورة عقلية, لأنه يهدي بأمر الله, وقد حكم الكتاب بالرد إليه, وقرن الرد إليه بالرد على الرسول (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(65).
فمن يكون بحكم الله مردودا إليه كيف يجوز الرد عليه, فإن الراد عليه راد على الرسول, والراد على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم راد على الله تعالى, وقد نص الرسول على إمامته قام أو قعد, فإن الإمامة الإلهية لا تدور مدار القيام بالأمر.
الثانية: احتج على صلحه بصلح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, وأنه تأسى بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(66).
الثالثة: أنه عليه السلام صالح الكفار بالتأويل, والرسول صالح الكفار بالتنزيل, فإذا وجب الصلح من الرسول مع الكافر ظاهراً وباطناً عند اقتضاء المصلحة, فالصلح مع الكافر باطناً والمسلم ظاهراً تجب بالأولوية القطعية, وقد صح في روايات العامة ما أشار إليه عليه السلام: فعن أبي سعيد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانقطعت نعله فتخلف علي يخصفها فمشى قليلا, ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله, فاستشرف له القوم وفيهم أبو بكر وعمر, قال أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا, قال عمر: أنا هو؟ قال: كلا, ولكن خاصف النعل يعني علياً فأتيناه فبشرناه, فلم يرفع به رأسه, كأنه قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(67).
الرابعة: أنه استدل على سد باب الاعتراض على عمل الإمام بما جرى بين موسى والخضر, الله سبحانه وتعالى عبر عما علمه الخضر بصيغة النكرة, وقال: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً),(68) ومع ذلك قال لموسى: (قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً),(69) فلما بين له الحكمة في عمله, قال: (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(70).
وهو عليه السلام إمام من الله, قائم مقام الذي ينزل الله عليه الكتاب تبياناً لكل شيءٍ, فهو عالم بما في هذا الكتاب, فإذا كان خرق السفينة في البحر ممن علمه الله علماً مقروناً بالحكمة, فكيف بالصلح الذي صدر ممن عنده علم الكتاب.
الخامسة: بين عليه السلام وجها من وجوه صلحه بقوله: (ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل) وشيعته الذين حقن دماءهم بصلحه, هم الذين استفاضت روايات العامة على أنهم خير البرية, وقد قال الهيتمي -مع ما عليه من سعيه لهدم مباني الشيعة-: من الآيات النازلة في شأن علي (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)(71), وقال: أخرج الحافظ جمال الدين الزرندي عن ابن عباس: إن هذه الآية لما نزلت قال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي هو أنت وشيعتك, تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين, ويأتي عدوك غضابا مقمحين, قال: ومن عدوي؟ قال: من تبرأ منك ولعنك(72).
هؤلاء شيعة علي عليه السلام, وقد كتب معاوية إلى جميع البلدان: انظروا من قبلكم من شيعة علي واتهمتموه بحبه فاقتلوه, وإن لم تقم عليه البينة, فاقتلوهم على التهمة والظنة والشبهة(73).
هذا مختصر مما صالح عليه السلام عليه, وما كان سبب صلحه, وما ترتب على صلحه.
ومن تأمل في صلح الحسن عليه السلام وحرب الحسين عليه السلام ظهر له معنى ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إن الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا.
شهادته عليه السلام
واستشهد بالسم الذي دسه معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس, بعدما جاهد في الله حق جهاده, ومضت ايام حياته في طاعة الله وعبادته.
وعندما كان يجود بنفسه, قال له جنادة بن أبي أمية: يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟
فقال: يا عبد الله بماذا أعالج الموت؟
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم التفت إلي وقال: والله إنه لعهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, أن هذا الأمر يملكه إثنا عشر إماما من ولد علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام, ما منا إلا مسموم أو مقتول... فقلت: عظني يا ابن رسول الله.
قال: نعم, استعد لسفرك, وحصل زادك قبل حلول أجلك, واعلم أنه تطلب الدنيا والموت يطلبك, ولا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه, واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك, واعلم أن في حلالها حساباً, وفي حرامها عقاب